سورة الحجر - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجر)


        


هذا المقطع الأول في سياق السورة، يتحدث عن طبيعة الكتاب الذي يكذب به المشركون.. ويهددهم بيوم يتمنون فيه لو كانوا مسلمين! كما يكشف لهم عن سبب إرجاء هذا اليوم عنهم، فهو موقوت بأجل معلوم.. ويذكر تحدياتهم واستهزاءهم وطلبهم الملائكة، ثم يهددهم بأن نزول الملائكة يكون معه الهلاك والتدمير! وأخيراً يكشف عن العلة الحقيقية للتكذيب.. إنها ليست نقص الدليل ولكنه العناد الأصيل!..
ألف. لام. را.. {تلك آيات الكتاب وقرآن مبين}..
هذه الأحرف ونظائرها هي الكتاب وهي القرآن. هذه الأحرف التي في متناول الجميع، هي {تلك} الآيات العالية الأفق البعيدة المتناول، المعجزة التنسيق. هذه الأحرف التي لا مدلول لها في ذاتها هي القرآن الواضح الكاشف المبين.
فإذا كان قوم يكفرون بآيات الكتاب المعجز ويكذبون بهذا القرآن المبين فسيأتي يوم يودون فيه لو كانوا غير ما كانوا؛ ويتمنون فيه لو آمنوا واستقاموا:
{ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}..
ربما.. ولكن حيث لا ينفع التمني ولا تجدي الودادة.. ربما.. وفيها التهديد الخفي، والاستهزاء الملفوف؛ وفيها كذلك الحث على انتهاز الفرصة المعروضة للإسلام والنجاة قبل أن تضيع، ويأتي اليوم الذي يودون فيه لو كانوا مسلمين؛ فما ينفعهم يومئذ أنهم يودون!
وتهديد آخر ملفوف:
{ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون}..
ذرهم فيما فيه من حياة حيوانية محضة للأكل والمتاع. لا تأمل فيها ولا تدبر ولا استطلاع. ذرهم في تلك الدوامة: الأمل يلهي والمطامع تغر، والعمر يمضي والفرصة تضيع. ذرهم فلا تشغل نفسك بهؤلاء الهالكين، الذين ضلوا في متاهة الأمل والغرور، يلوح لهم ويشغلهم بالأطماع، ويملي لهم فيحسبون أن أجلهم ممدود، وأنهم محصلون ما يطمعون لا يردهم عنه راد، ولا يمنعهم منه مانع. وأن ليس وراءهم حسيب؛ وأنهم ناجون في النهاية بما ينالون مما يطعمون!
وصورة الأمل الملهي صورة إنسانية حية. فالأمل البراق ما يزال يخايل لهذا الإنسان، وهو يجري وراءه، وينشغل به، ويستغرق فيه، حتى يجاوز المنطقة المأمونة؛ وحتى يغفل عن الله، وعن القدر، وعن الأجل؛ وحتى ينسى أن هنالك واجباً، وأن هنالك محظوراً؛ بل حتى لينسى أن هنالك إلهاً، وأن هنالك موتاً، وأن هناك نشوراً.
وهذا هو الأمل القاتل الذي يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعهم له.. {فسوف يعلمون}.. حيث لا ينفع العلم بعد فوات الأوان.. وهو أمر فيه تهديد لهم، وفيه كذلك لمسة عنيفة لعلهم يصحون من الأمل الخادع الذي يلهيهم عن المصير المحتوم.
وإن سنة الله لماضية لا تتخلف؛ وهلاك الأمم مرهون بأجلها الذي قدره الله لها؛ مترتب على سلوكها الذي تنفذ به سنة الله ومشيئته:
{وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم.
ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون}..
فلا يغرنهم تخلف العذاب عنهم فترة من الوقت، فإنما هي سنة الله تمضي في طريقها المعلوم. ولسوف يعلمون.
وذلك الكتاب المعلوم والأجل المقسوم، يمنحه الله للقرى والأمم، لتعمل، وعلى حسب العمل يكون المصير. فإذا هي آمنت وأحسنت وأصلحت وعدلت مد الله في أجلها، حتى تنحرف عن هذه الأسس كلها، ولا تبقى فيها بقية من خير يرجى، عندئذ تبلغ أجلها، وينتهي وجودها، إما نهائياً بالهلاك والدثور، وإما وقتياً بالضعف والذبول.
ولقد يقال: إن أمما لا تؤمن ولا تحسن ولا تصلح ولا تعدل. وهي مع ذلك قوية ثرية باقية. وهذا وهم. فلا بد من بقية من خير في هذه الأمم. ولو كان هو خير العمارة للأرض، وخير العدل في حدوده الضيقة بين أبنائها، وخير الإصلاح المادي والإحسان المحدود بحدودها. فعلى هذه البقية من الخير تعيش حتى تستنفدها فلا تبقى فيها من الخير بقية. ثم تنتهي حتماً إلى المصير المعلوم.
إن سنة الله لا تتخلف. ولكل أمة أجل معلوم:
{ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون}..
ويحكي السياق سوء أدبهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وقد جاءهم بالكتاب والقرآن المبين، يوقظهم من الأمل الملهي، ويذكرهم بسنة الله، فإذا هم يسخرون منه ويتوقحون:
{وقالوا: يأيها الذي نزّل عليه الذكر إنك لمجنون. لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين!}..
وتبدو السخرية في ندائهم:
{يا أيها الذي نُزّل عليه الذكر}..
فهم ينكرون الوحي والرسالة؛ ولكنهم يتهكمون على الرسول الكريم بهذا الذي يقولون.
ويبدو سوء الأدب في وصفهم للرسول الأمين:
{إنك لمجنون}..
جزاء على دعوته لهم بالقرآن المبين.
وهم يتمحكون فيطلبون الملائكة مصدقين:
{لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين!}.
وطلب نزول الملائكة يتكرر في هذه السورة وفي غيرها، مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع غيره من الرسل قبله: وهو كما قلنا ظاهرة من ظواهر الجهل بقيمة هذا الكائن الإنساني الذي كرمه الله، فجعل النبوة في جنسه، ممثلة في أفراده المختارين.
والرد على ذلك التهكم وتلك الوقاحة وهذا الجهل هو ذكر القاعدة التي تشهد بها مصارع السالفين: أن الملائكة لا تنزل على الرسول إلا لهلاك المكذبين من قومه حين ينتهي الأجل المعلوم؛ وعندئذ فلا إمهال ولا تأجيل:
{ما ننزل الملائكة إلا بالحق، وما كانوا إذن منظَرين}..
فهل هو ما يريدون وما يتطلبون؟!
ثم يردهم السياق إلى الهدى والتدبير.. إن الله لا ينزل الملائكة إلا بالحق، ليحقوه وينفذوه. والحق عند التكذيب هو الهلاك.
فهم يستحقونه فيحق عليهم. فهو حق تنزل به الملائكة لتنفذه بلا تأخير. وقد أراد الله لهم خيراً مما يريدون بأنفسهم، فنزل لهم الذكر يتدبرونه ويهتدون به، وهو خير لهم من تنزيل الملائكة بالحق الأخير! لو كانوا يفقهون:
{إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون}..
فخير لهم أن يقبلوا عليه. فهو باق محفوظ لا يندثر ولا يتبدل. ولا يلتبس بالباطل ولا يمسه التحريف وهو يقودهم إلى الحق برعاية الله وحفظه، إن كانوا يريدون الحق، وإن كانوا يطلبون الملائكة للتثبيت.. إن الله لا يريد أن ينزل عليهم الملائكة، لأنه أراد بهم الخير فنزل لهم الذكر المحفوظ، لا ملائكة الهلاك والتدمير.
وننظر نحن اليوم من وراء القرون إلى وعد الله الحق بحفظ هذا الذكر؛ فنرى فيه المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب إلى جانب غيرها من الشواهد الكثيرة ونرى أن الأحوال والظروف والملابسات والعوامل التي تقلبت على هذا الكتاب في خلال هذه القرون ما كان يمكن أن تتركه مصوناً محفوظاً لا تتبدل فيه كلمة، ولا تحرف فيه جملة، لولا أن هنالك قدرة خارجة عن إرادة البشر، أكبر من الأحوال والظروف والملابسات والعوامل، تحفظ هذا الكتاب من التغيير والتبديل، وتصونه من العبث والتحريف.
لقد جاء على هذا القرآن زمان في أيام الفتن الأولى كثرت فيه الفرق، وكثر فيه النزاع، وطمت فيه الفتن، وتماوجت فيه الأحداث. وراحت كل فرقة تبحث لها عن سند في هذا القرآن وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل في هذه الفتن وساقها أعداء هذا الدين الأصلاء من اليهود خاصة ثم من القوميين دعاة القومية الذين تسمّوا بالشعوبيين!
ولقد أدخلت هذه الفرق على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما احتاج إلى جهد عشرات العلماء الأتقياء الأذكياء عشرات من السنين لتحرير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغربلتها وتنقيتها من كل دخيل عليها من كيد أولئك الكائدين لهذا الدين.
كما استطاعت هذه الفرق في تلك الفتن أن تؤول معاني النصوص القرآنية، وأن تحاول أن تلوي هذه النصوص لتشهد لها بما تريد تقريره من الأحكام والاتجاهات..
ولكنها عجزت جميعاً وفي أشد أوقات الفتن حلوكة واضطرابا أن تحدث حدثاً واحداً في نصوص هذا الكتاب المحفوظ؛ وبقيت نصوصه كما أنزلها الله؛ حجة باقية على كل محرف وكل مؤول؛ وحجة باقية كذلك على ربانية هذا الذكر المحفوظ.
ثم جاء على المسلمين زمان ما نزال نعانيه ضعفوا فيه عن حماية أنفسهم، وعن حماية عقيدتهم، وعن حماية نظامهم، وعن حماية أرضهم، وعن حماية أعراضهم وأموالهم وأخلاقهم. وحتى عن حماية عقولهم وإدراكهم! وغيّر عليهم أعداؤهم الغالبون كل معروف عندهم، وأحلوا مكانه كل منكر فيهم.
كل منكر من العقائد والتصورات، ومن القيم والموازين، ومن الأخلاق والعادات، ومن الأنظمة والقوانين... وزينوا لهم الانحلال والفساد والتوقح والتعري من كل خصائص الإنسان وردوهم إلى حياة كحياة الحيوان.. وأحياناً إلى حياة يشمئز منها الحيوان.. ووضعوا لهم ذلك الشر كله تحت عنوانات براقة من التقدم والتطور والعلمانية والعلمية والانطلاق والتحرر وتحطيم الأغلال والثورية والتجديد.. إلى آخر تلك الشعارات والعناوين.. وأصبح المسلمون بالأسماء وحدها مسلمين. ليس لهم من هذا الدين قليل ولا كثير. وباتوا غثاء كغثاء السيل لا يمنع ولا يدفع، ولا يصلح لشيء إلا أن يكون وقوداً للنار.. وهو وقود هزيل!..
ولكن أعداء هذا الدين بعد هذا كله لم يستطيعوا تبديل نصوص هذا الكتاب ولا تحريفها. ولم يكونوا في هذا من الزاهدين. فلقد كانوا أحرص الناس على بلوغ هذا الهدف لو كان يبلغ، وعلى نيل هذه الأمنية لو كانت تنال!
ولقد بذل أعداء هذا الدين وفي مقدمتهم اليهود رصيدهم من تجارب أربعة آلاف سنة أو تزيد في الكيد لدين الله. وقدروا على أشياء كثيرة.. قدروا على الدس في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى تاريخ الأمة المسلمة. وقدروا على تزوير الأحداث ودس الأشخاص في جسم المجتمع المسلم ليؤدوا الأدوار التي يعجزون عن أدائها وهم سافرون. وقدروا على تحطيم الدول والمجتمعات والأنظمة والقوانين. وقدروا على تقديم عملائهم الخونة في صورة الأبطال الأمجاد ليقوموا لهم بأعمال الهدم والتدمير في أجسام المجتمعات الإسلامية على مدار القرون، وبخاصة في العصر الحديث:
ولكنهم لم يقدروا على شيء واحد والظروف الظاهرية كلها مهيأة له.. لم يقدروا على إحداث شيء في هذا الكتاب المحفوظ، الذي لا حماية له من أهله المنتسبين إليه؛ وهم بعد أن نبذوه وراء ظهورهم غثاء كغثاء السيل لا يدفع ولا يمنع؛ فدل هذا مرة أخرى على ربانية هذا الكتاب، وشهدت هذه المعجزة الباهرة بأنه حقاً تنزيل من عزيز حكيم.
لقد كان هذا الوعد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد وعد. أما هو اليوم من وراء كل تلك الأحداث الضخام؛ ومن وراء كل تلك القرون الطوال. فهو المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب، والتي لا يماري فيها إلا عنيد جهول:
{إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون}.. وصدق الله العظيم..
ويعزي الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فيخبره أنه ليس بدعاً من الرسل الذين لقوا الاستهزاء والتكذيب، فهكذا المكذبون دائماً في عنادهم الذميم:
{ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين.
وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون}..
وعلى هذا النحو الذي تلقى به المكذبون أتباع الرسل ما جاءهم به رسلهم، يتلقى المكذبون المجرمون من أتباعك ما جئتهم به. وعلى هذا النحو نجري هذا التكذيب في قلوبهم التي لا تتدبر ولا تحسن الاستقبال، جزاء ما أعرضت وأجرمت في حق الرسل المختارين:
{كذلك نسلكه في قلوب المجرمين. لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين}..
نَسلُكه في قلوبهم مكذّباً بما فيه مستهزأ به؛ لأن هذه القلوب لا تحسن أن تتلقاه إلا على هذا النحو. سواء في هذا الجيل أم في الأجيال الخالية أم في الأجيال اللاحقة؛ فالمكذبون أمة واحدة، من طينة واحدة:
{وقد خلت سنة الأولين}..
وليس الذي ينقصهم هو توافر دلائل الإيمان، فهم معاندون ومكابرون، مهما تأتهم من آية بينة فهم في عنادهم ومكابرتهم سادرون.
وهنا يرسم السياق نموذجاً باهراً للمكابرة المرذولة والعناد البغيض:
{ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلّوا فيه يعرجون، لقالوا: إنما سكّرت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون}..
ويكفي تصورهم يصعدون في السماء من باب يفتح لهم فيها. يصعدون بأجسامهم، ويرون الباب المفتوح أمامهم، ويحسون حركة الصعود ويرون دلائلها.. ثم هم بعد ذلك يكابرون فيقولون: لا. لا. ليست هذه حقيقة. إنما أحد سكّر أبصارنا وخدّرها فهي لا ترى إنما تتخيل:
{إنما سكّرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون}..
سكر أبصارنا مسكر وسحرنا ساحر، فكل ما نراه وما نتحركه تهيؤات مسكّر مسحور!
يكفي تصورهم على هذا النحو لتبدو المكابرة السمجة ويتجلى العناد المزري. ويتأكد أن لا جدوى من الجدل مع هؤلاء. ويثبت أن ليس الذي ينقصهم هو دلائل الإيمان. وليس الذي يمنعهم أن الملائكة لا تنزل. فصعودهم هم أشد دلالة وألصق بهم من نزول الملائكة. إنما هم قوم مكابرون. مكابرون بلا حياء وبلا تحرج وبلا مبالاة بالحق الواضح المكشوف!
إنه نموذج بشري للمكابرة والاستغلاق والانطماس يرسمه التعبير، مثيراً لشعور الاشمئزاز والتحقير..
وهذا النموذج ليس محلياً ولا وقتياً، ولا هو وليد بيئة معينة في زمان معين.. إنه نموذج للإنسان حين تفسد فطرته، وتستغلق بصيرته، وتتعطل في كيانه أجهزة الاستقبال والتلقي، وينقطع عن الوجود الحي من حوله، وعن إيقاعاته وإيحاءاته.
هذا النموذج يتمثل في هذا الزمان في الملحدين وأصحاب المذاهب المادية التي يسمونها المذاهب العلمية! وهي أبعد ما تكون عن العلم؛ بل أبعد ما تكون عن الإلهام والبصيرة..
إن أصحاب المذاهب المادية يلحدون في الله؛ ويجادلون في وجوده سبحانه وينكرون هذا الوجود.
ثم يقيمون على أساس إنكار وجود الله، والزعم بأن هذا الكون موجود هكذا بذاته، بلا خالق، وبلا مدبر، وبلا موجه.. يقيمون على أساس هذا الزعم وذلك الإنكار مذاهب اجتماعية وسياسية واقتصادية وأخلاقية! كذلك. ويزعمون أن هذه المذاهب القائمة على ذلك الأساس، والتي لا تنفصل عنه بحال.. علمية.. هي وحدها العلمية!
وعدم الشعور بوجود الله سبحانه، مع وجود تلك الشواهد والدلائل الكونية، هو دلالة لا تنكر على تعطل أجهزة الاستقبال والتلقي في تلك الجبلات النّكدة. كما أن اللجاجة في هذا الإنكار لا تقل تبجحاً عن تبجح ذلك النموذج الذي ترسمه النصوص القرآنية السابقة:
{ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون. لقالوا: إنما سكّرت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون!}..
فالشواهد الكونية أظهر وأوضح من عروجهم إلى السماء. وهي تخاطب كل فطرة غير معطلة خطاباً هامساً وجاهراً، باطناً وظاهراً، بما لا تملك هذه الفطرة معه إلا المعرفة والإقرار.
إن القول بأن هذا الكون موجود بذاته؛ وفيه كل تلك النواميس المتوافقة لحفظه وتحريكه وتدبيره؛ كما أن فيه كل تلك الموافقات لنشأة الحياة في بعض أجزائه.. وهي موافقات لا تحصى.. إن هذا القول بذاته يرفضه العقل البشري، كما ترفضه الفطرة من أعماقها. وكلما توغل العلم في المعرفة بطبيعة هذا الكون وأسراره وموافقاته؛ رفض فكرة التلقائية في وجود هذا الكون وفي حركته بعد وجوده؛ واضطر اضطرارا إلى رؤية اليد الخالقة المدبرة من ورائه.. هذه الرؤية التي تتم للفطرة السوية بمجرد تلقي إيقاعات هذا الكون وإيحاءاته. قبل جميع البحوث العلمية التي لم تجئ إلا أخيرا!
إن الكون لا يملك أن يخلق ذاته، ثم يخلق في الوقت نفسه قوانينه التي تصرف وجوده. كما أن نشأة الحياة لا يفسرها وجود الكون الخالي من الحياة. وتفسير نشأة الكون ونشأة الحياة بدون وجود خالق مدبر تفسير متعسف ترفضه الفطرة كما يرفضه العقل أيضا: كما أخذ يرفضه العلم المادي نفسه أخيرا:
يقول عالم الأحياء والنبات رسل تشارلز إرنست الأستاذ بجامعة فرانكفورت بألمانيا: لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات؛ فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين، أو من الفيروس، أو من تجمع بعض الجزيئات البروتينية الكبيرة. وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات. ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به هو أن جميع الجهود التي بذلت للحصول على المادة الحية من غير الحية، قد باءت بفشل وخذلان ذريعين. ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجمع الذرات والجزيئات عن طريق المصادفة، يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية.
وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة، فهذا شأنه وحده! ولكنه إذ يفعل ذلك، فإنما يسلم بأمر أشد إعجازا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله، الذي خلق الأشياء ودبرها.
إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها. وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته شهادة تقوم على الفكر والمنطق. ولذلك فإنني أومن بوجود الله إيماناً راسخا.
وهذا الذي يكتب هذا التقرير لم يبدأ بحثه من التقريرات الدينية عن نشأة الحياة. إنما بدأ بحثه من النظر الموضوعي لنواميس الحياة. والمنطق السائد في بحثه هو منطق العلم الحديث بكل خصائصه لا منطق الإلهام الفطري، ولا منطق الحس الديني. ومع ذلك فقد انتهى إلى الحقيقة التي يقررها الإلهام الفطري، كما يقررها الحس الديني. ذلك أن الحقيقة متى كان لها وجود، اعترض وجودها كل سالك إليها من أي طريق يسلكه إليها: أما الذين لا يجدون هذه الحقيقة فهم الذين تعطلت فيهم أجهزة الإدراك جميعا!
والذين يجادلون في الله مخالفين عن منطق الفطرة وعن منطق العقل، وعن منطق الكون.. أولئك كائنات تعطلت فيها أجهزة الاستقبال والتلقي جميعا.. إنهم العُمْي الذين يقول الله تعالى فيهم {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى} وإذا كانت هذه حقيقتهم؛ فإن ما ينشئونه من مذاهب علمية! اجتماعية وسياسية واقتصادية؛ وما ينشئون من نظريات عن الكون والحياة والإنسان والحياة والإنسانية والتاريخ الإنساني؛ يجب أن ينظر إليها المسلم كما ينظر إلى كل تخبط، صادر عن أعمى، معطل الحواس الأخرى، محجوباً عن الرؤية وعن الحس وعن الإدراك جميعاً على الأقل فيما يتعلق بالحياة الإنسانية وتفسيرها وتنظيمها. وما ينبغي لمسلم أن يتلقى عن هؤلاء شيئاً؛ فضلاً على أن يكيف نظرته، ويقيم منهج حياته، على شيء مقتبس من أولئك العمي أصلاً!
إن هذه قضية إيمانية اعتقادية، وليست قضية رأي وفكر! إن الذي يقيم تفكيره، ويقيم مذهبه في الحياة، ويقيم نظام حياته كذلك، على أساس أن هذا الكون المادي هو منشئ ذاته، ومنشئ الإنسان أيضا.. إنما يخطئ في قاعدة الفكرة والمذهب والنظام؛ فكل التشكيلات والتنظيمات والإجراءات القائمة على هذه القاعدة لا يمكن أن تجيء بخير؛ ولا يمكن أن تلتحم في جزيئة واحدة مع حياة مسلم، يقيم اعتقاده وتصوره، ويجب أن يقيم نظامه وحياته على قاعدة ألوهية الله للكون وخلقه وتدبيره.
ومن ثم يصبح القول بأن ما يسمى الاشتراكية العلمية منهج مستقل عن المذهب المادي مجرد جهالة أو هراء! ويصبح الأخذ بما يسمى الاشتراكية العلمية وتلك قاعدتها ونشأتها ومنهج تفكيرها وبناء انظمتها عدولاً جذرياً عن الإسلام: اعتقاداً وتصوراً ثم منهجا ونظاما.
حيث لا يمكن الجمع بين الأخذ بتلك الاشتراكية العلمية واحترام العقيدة في الله بتاتاً. ومحاولة الجمع بينهما هي محاولة الجمع بين الكفر والاسلام.. وهذه هي الحقيقة التي لا محيص عنها..
إن الناس في أي أرض وفي أي زمان؛ إما أن يتخذوا الإسلام ديناً، وإما ان يتخذوا المادية ديناً. فإذا اتخذوا الإسلام دينا امتنع عليهم أن يتخذوا الاشتراكية العلمية المنبثقة من الفلسفة المادية، والتي لا يمكن فصلها عن الأصل الذي انبثقت منه، نظاما.. وعلى الناس أن تختار.. إما الإسلام، وإما المادية، منذ الابتداء!
إن الإسلام ليس مجرد عقيدة مستكنة في الضمير. إنما هو نظام قائم على عقيدة.. كما أن الاشتراكية العلمية بهذا الاصطلاح ليست قائمة على هواء، إنما هي منبثقة انبثاقاً طبيعيا من المذهب المادي الذي يقوم بدوره على قاعدة مادية الكون وإنكار وجود الخالق المدبر اصلا، ولا يمكن الفصل بين هذا التركيب العضوي.. ومن ثَمَّ ذلك التناقض الجذري بين الإسلام وما يسمى الاشتراكية العلمية بكل تطبيقاتها!
ولا بد من الاختيار بينهما.. ولكل أن يختار وأن يتحمل عند الله تبعة ما يختار!!!


من مشهد المكابرة. وكان ميدانه السماء. إلى معرض الآيات الكونية مبدوءاً بمشهد السماء. فمشهد الأرض. فمشهد الرياح اللواقح بالماء. فمشهد الحياة والموت. فمشهد البعث والحشر.. كل أولئك آيات يكابر فيها من لو فتح عليهم باب من السماء فظلوا فيه يعرجون، لقالوا: إنما سكرت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون. فلنعرضها مشهداً مشهداً كما هي في السياق:
{ولقد جعلنا في السماء بروجا. وزيناها للناظرين. وحفظناها من كل شيطان رجيم. إلا من استرق السمع، فأتبعه شهاب مبين}..
إنه الخط الأول في اللوحة العريضة.. لوحة الكون العجيبة، التي تنطق بآيات القدرة المبدعة، وتشهد بالإعجاز أكثر مما يشهد نزول الملائكة؛ وتكشف عن دقة التنظيم والتقدير، كما تكشف عن عظمة القدرة على هذا الخلق الكبير.
والبروج قد تكون هي النجوم والكواكب بضخامتها. وقد تكون هي منازل النجوم والكواكب التي تتنقل فيها في مدارها. وهي في كلتا الحالتين شاهدة بالقدرة، وشاهدة بالدقة، وشاهدة بالإبداع الجميل:
{وزيناها للناظرين}..
وهي لفتة هنا إلى جمال الكون وبخاصة تلك السماء تشي بأن الجمال غاية مقصودة في خلق هذا الكون. فليست الضخامة وحدها، وليست الدقة وحدها، إنما هو الجمال الذي ينتظم المظاهر جميعاً، وينشأ من تناسقها جميعاً.
وإن نظرة مبصرة إلى السماء في الليلة الحالكة، وقد انتثرت فيها الكواكب والنجوم، توصوص بنورها ثم يبدو كأنما تخبو، ريثما تنتقل العين لتلبي دعوة من نجم بعيد.. ونظرة مثلها في الليلة القمرية والبدر حالم، والكون من حوله مهوّم، كأنما يمسك أنفاسه لا يوقظ الحالم السعيد!.
إن نظرة واحدة شاعرة لكفيلة بإدراك حقيقة الجمال الكوني، وعمق هذا الجمال في تكوينه؛ ولإدراك معنى هذه اللفتة العجيبة:
{وزيناها للناظرين}..
ومع الزينة الحفظ والطهارة:
{وحفظناها من كل شيطان رجيم}..
لا ينالها ولا يدنسها؛ ولا ينفث فيها من شره ورجسه وغوايته. فالشيطان موكل بهذه الأرض وحدها، وبالغاوين من أبناء آدم فيها. أما السماء وهي رمز للسمو والارتفاع فهو مطرود عنها مطارد لا ينالها ولا يدنسها. إلا محاولة منه ترد كلما حاولها:
{إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين}..
وما الشيطان؟ وكيف يحاول استراق السمع؟ وأي شيء يسترق؟.. كل هذا غيب من غيب الله، لا سبيل لنا إليه إلا من خلال النصوص. ولا جدوى في الخوض فيه، لأنه لا يزيد شيئاً في العقيدة؛ ولا يثمر إلا انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه، وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة. ثم لا يضيف إليه إدراكاً جديدا لحقيقة جديدة.
فلنعلم أن لا سبيل في السماء لشيطان، وأن هذا الجمال الباهر فيها محفوظ، وأن ما ترمز إليه من سمو وعُلىً مصون لا يناله دنس ولا رجس، ولا يخطر فيه شيطان، وإلا طورد فطرد وحيل بينه وبين ما يريد.
ولا ننسى جمال الحركة في المشهد في رسم البرج الثابت، والشيطان الصاعد، والشهاب المنقض، فهي من بدائع التصوير في هذا الكتاب الجميل.
والخط الثاني في اللوحة العريضة الهائلة هو خط الأرض الممدودة أمام النظر، المبسوطة للخطو والسير؛ وما فيها من رواسٍ، وما فيها من نبت وأرزاق للناس ولغيرهم من الأحياء:
{والأرض مددناها وألقينا فيها رواسيَ، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون. وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين}..
إن ظل الضخامة واضح في السياق. فالإشارة في السماء إلى البروج الضخمة تبدو ضخامتها حتى في جرس كلمة {بروج} وحتى الشهاب المتحرك وصف من قبل بأنه {مبين}.. والإشارة في الأرض إلى الرواسي ويتجسم ثقلها في التعبير بقوله: {وألقينا فيها رواسي}. وإلى النبات موصوفاً بأنه {موزون} وهي كلمة ذات ثقل، وإن كان معناها أن كل نبت في هذه الأرض في خلقه دقة وإحكام وتقدير.. ويشترك في ظل التضخيم جمع {معايش} وتنكيرها، وكذلك {ومن لستم له برازقين} من كل ما في الأرض من أحياء على وجه الإجمال والإبهام. فكلها تخلع ظل الضخامة الذي يجلل المشهد المرسوم.
والآية الكونية هنا تتجاوز الآفاق إلى الأنفس. فهذه الأرض الممدودة للنظر والخطو؛ وهذه الرواسي الملقاه على الأرض، تصاحبها الإشارة إلى النبت الموزون؛ ومنه إلى المعايش التي جعلها الله للناس في هذه الأرض. وهي الأرزاق المؤهلة للعيش والحياة فيها. وهي كثيرة شتى، يجملها السياق هنا ويبهمها لتلقي ظل الضخامة كما أسلفنا. جعلنا لكم فيها معايش، وجعلنا لكم كذلك {من لستم له برازقين}. فهم يعيشون على أرزاق الله التي جعلها لهم في الأرض. وما أنتم إلا أمة من هذه الأمم التي لا تحصى. أمة لا ترزق سواها إنما الله يرزقها ويرزق سواها، ثم يتفضل عليها فيجعل لمنفعتها ومتاعها وخدمتها أمماً أخرى تعيش من رزق الله، ولا تكلفها شيئاً.
هذه الأرزاق ككل شيء مقدرة في علم الله، تابعة لأمره ومشيئته، يصرفها حيث يشاء وكما يريد، في الوقت الذي يريده حسب سنته التي ارتضاها، وأجراها في الناس والأرزاق:
{وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم}..
فما من مخلوق يقدر على شيء أو يملك شيئاً، إنما خزائن كل شيء مصادره وموارده عند الله. في علاه. ينزله على الخلق في عوالمهم {بقدر معلوم} فليس من شيء ينزل جزافاً، وليس من شيء يتم اعتباطاً.
ومدلول هذا النص المحكم: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} يتجلى بوضوح أكثر كلما تقدم الإنسان في المعرفة، وكلما اهتدى إلى أسرار تركيب هذا الكون وتكوينه.
ومدلول {خزائنه} يتجلى في صورة أقرب بعدما كشف الإنسان طبيعة العناصر التي يتألف منها الكون المادي؛ وطبيعة تركيبها وتحليلها إلى حد ما وعرف مثلاً أن خزائن الماء الأساسية هي ذرات الايدروجين والأكسوجين! وأن من خزائن الرزق المتمثل في النبات الأخضر كله ذلك الآزوت الذي في الهواء! وذلك الكربون وذلك الأكسجين المركب في ثاني أكسيد الكربون! وتلك الأشعة التي ترسل بها الشمس أيضاً! ومثل هذا كثير يوضح دلالة خزائن الله التي توصل الإنسان إلى معرفة شيء منها.. وهو شيء على كثرته قليل قليل..
ومما يرسله الله بقدر معلوم الرياح والماء:
{وأرسلنا الرياح لواقح، فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه. وما أنتم له بخازنين}..
أرسلنا الرياح لواقح بالماء، كما تلقح الناقة بالنتاج؛ فانزلنا من السماء ماء مما حملت الرياح، فأسقيناكموه فعشتم به:
{وما أنتم له بخازنين}..
فما من خزائنكم جاء، إنما جاء من خزائن الله ونزل منها بقدر معلوم.
والرياح تنطلق وفق نواميس كونية، وتحمل الماء وفقاً لهذه النواميس؛ وتسقط الماء كذلك بحسبها. ولكن من الذي قدر هذا كله من الأساس؟ لقد قدره الخالق، ووضع الناموس الكلي الذي تنشأ عنه كل الظواهر:
{وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم}.
ونلحظ في التعبير أنه يرد كل حركة إلى الله حتى شرب الماء.. {فأسقيناكموه}.. والمقصود أننا جعلنا خلقتكم تطلب الماء، وجعلنا الماء صالحاً لحاجتكم، وقدرنا هذا وذاك. وأجريناه وحققناه بقدر الله. والتعبير يجيء على هذا النحو لتنسيق الجو كله، ورجع الأمر كله إلى الله حتى في حركة تناول الماء للشراب. لأن الجو جو تعليق كل شيء في هذا الكون بإرادة الله المباشرة وقدره المتعلق بكل حركة وحادث.. سنة الله هنا في حركات الأفلاك كسنته هناك في حركات الأنفس.. تضمن المقطع الأول سنته في المكذبين، وتضمن المقطع الثاني سنته في السماوات والأرضين، وفي الرياح والماء والاستقاء. وكله من سنة الله التي يجري بها قدر الله. وهذه وتلك موصولتان بالحق الكبير الذي خلق الله به السماوات والأرض والناس والأشياء سواء.
ثم يتم السياق رجع كل شيء إلى الله، فيرد إليه الحياة والموت، والأحياء والأموات، والبعث والنشور.
{وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون. ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين. وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم}..
وهنا يلتقي المقطع الثاني بالمقطع الأول. فهناك قال:
{وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم، ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون} وهنا يقرر أن الحياة والموت بيد الله، وأن الله هو الوارث بعد الحياة. وأنه هو يعلم من كتب عليهم أن يستقدموا فيتوفوا، ومن كتب عليهم أن يؤجلوا فيستأخروا في الوفاة.
وأنه هو الذي يحشرهم في النهاية، وإليه المصير:
{إنه حكيم عليم}..
يقدر لكل أمة أجلها بحكمته، ويعلم متى تموت، ومتى تحشر، وما بين ذلك من أمور..
ونلاحظ في هذا المقطع وفي الذي قبله تناسقاً في حركة المشهد. في تنزيل الذكر. وتنزيل الملائكة. وتنزيل الرجوم للشياطين. وتنزيل الماء من السماء.. ثم في المجال الذي يحيط بالأحداث والمعاني، وهو مجال الكون الكبير: السماء والبروج والشهب، والأرض والرواسي والنبات، والرياح والمطر.. فلما ضرب مثلا للمكابرة جعل موضوعه العروج من الأرض إلى السماء خلال باب منها مفتوح في ذات المجال المعروض.. وذلك من بدائع التصوير في هذا الكتاب العجيب.


هنا نجيء إلى قصة البشرية الكبرى: قصة الفطرة الأولى. قصة الهدى والضلال وعواملهما الأصيلة. قصة آدم. مم خلق؟ وماذا صاحب خلقه وتلاه؟
ولقد مرت بنا هذه القصة في الظلال معروضة مرتين من قبل. في سورة البقرة، وفي سورة الأعراف. ولكن مساقها في كل مرة كان لأداء غرض خاص، في معرض خاص، في جو خاص. ومن ثم اختلفت الحلقات التي تعرض منها في كل موضع، واختلفت طريقة الأداء، واختلفت الظلال، واختلفت الإيقاع. مع المشاركة في بعض المقدمات والتعقيبات بقدر الاشتراك في الأهداف.
تشابهت مقدمات القصة في السور الثلاث؛ في الأشارة إلى التمكين للإنسان في الأرض وإلى استخلافه فيها:
ففي سورة البقرة سبقها في السياق: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً، ثم استوى إلى السماء، فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} وفي سورة الأعراف سبقها: {ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون} وهنا سبقها: {والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين} ولكن السياق الذي وردت فيه القصة في كل سورة كان مختلف الوجهة والغرض..
في البقرة كانت نقطة التركيز في السياق هي استخلاف آدم في الأرض التي خلق لله للناس ما فيها جميعاً:
{وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} ومن ثم عرض من القصة أسرار هذا الاستخلاف الذي عجبت له الملائكة لما خفي عليهم سره: {وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم: إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون؟} ثم عرض حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس واستكباره. وسكنى آدم وزوجه الجنة. وإزلال الشيطان لهما عنها وأخراجهما منها. ثم الهبوط إلى الأرض للخلافه فيها، بعد تزويدهما بهذه التجربة القاسية، واستغفارهما وتوبة الله عليهما.. وعقب على القصة بدعوة بني إسرائيل لذكر نعمة الله عليهم والوفاء بعهده معهم، فكان هذا متصلاً باستخلاف أبيهم الأكبر في الأرض، وعهده معه، والتجربة القاسية لأبي البشر..
وفي الأعراف كانت نقطة التركيز في السياق هي الرحلة الطويلة من الجنة وإليها؛ وإبراز عداوة إبليس للإنسان منذ بدء الرحلة إلى نهايتها. حتى يعود الناس مرة أخرى إلى ساحة العرض الأولي. ففريق منهم يعودون إلى الجنة التي أخرج الشيطان أبويهم منها لأنهم عادوه وخالفوه. وفريق ينتكس إلى النار لأنه اتبع خطوات الشيطان العدو اللدود.. ومن ثم عرض السياق حكاية سجود الملائكة وإباء ابليس واستكباره.
وطلبه من الله أن ينظره إلى يوم البعث، ليغوي أبناء آدم الذي من أجله طرد. ثم إسكان آدم وزوجه الجنة يأكلان من ثمرها كله إلا شجرة واحدة، هي رمز المحظور الذي تبتلى به الإرادة والطاعة. ثم وسوسة الشيطان لهما بتوسع وتفصيل، وأكلهما من الشجرة وظهور سوآتهما لهما، وعتاب الله لآدم وزوجه، وإهباطهم إلى الأرض جميعاً للعمل في أرض المعركة الكبرى: {قال: اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين، قال: فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون} ثم تابع السياق الرحلة كلها حتى يعود الجميع كرة أخرى. وعرضهم في الساحة الكبرى مع التفصيل والحوار. ثم انتهى فريق إلى الجنة وفريق إلى النار: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله. قالوا: إن الله حرمهما على الكافرين} وأسدل الستار..
فأما هنا في هذه السورة فإن نقطة التركيز في السياق هي سر التكوين في آدم، وسر الهدى والضلال، وعواملهما الأصيلة في كيان الإنسان.. ومن ثم نص ابتداء على خلق الله آدم من صلصال من حمأ مسنون، ونفخه فيه من روحه المشرق الكريم؛ وخلق الشيطان من قبل من نار السموم. ثم عرض حكاية سجود الملائكة وإباء إبليس استنكافاً من السجود لبشر من صلصال من حمأ مسنون. وطرده ولعنته. وطلبه الإنظار إلى يوم البعث وإجابته. وزاد أن إبليس قرر على نفسه أن ليس له سلطان على عباد الله المخلصين. إنما سلطانه على من يدينون له ولا يدنون لله. وانتهى بمصير هؤلاء وهؤلاء في غير حوار ولا عرض ولا تفصيل. تبعا لنقطة التركيز في السياق، وقد استوفيت ببيان عنصري الإنسان، وبيان مجال سلطة الشيطان..
فلنمض إلى مشاهد القصة في هذا المجال:
{ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون. والجان خلقناه من قبل من نار السموم}..
وفي هذا الافتتاح يقرر اختلاف الطبيعتين بين الصلصال وهو الطين اليابس الذي يصلصل عند نقره، المتخذ من الطين الرطب الآسن والنار الموسومة بأنها شعواء سامة.. نار السموم.. وفيما بعد سنعلم أن طبيعة الإنسان قد دخل فيها عنصر جديد هو النفخة من روح الله، أما طبيعة الشيطان فبقيت نار السموم.
{وإذ قال ربك للملائكة: إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين. قال: يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين؟ قال: لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون. قال: فاخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين}..
وإذ قال ربك للملائكة.. متى قال؟، وأين قال؟ وكيف قال؟ كل أولئك قد أجبنا عنه في سورة البقرة في الجزء الأول من هذه الظلال.
إنه لا سبيل إلى الإجابة، لأنه ليس لدينا نص يجيب. وليس لنا من سبيل إلى ذلك الغيب إلا بنص، وكل ما عدا ذلك ضرب في التيه بلا دليل.
فأما خلق الإنسان من صلصال من حمأ مسنون والنفخ فيه من روح الله فكيف كان؟ فهو كذلك ما لا ندري كيفيته، ولا سبيل إلى تحديد هذه الكيفية بحال من الأحوال.
وقد يقال بالإحالة إلى نصوص القرآن الأخرى في هذه القضية، وبخاصة قوله: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. وقوله: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من ماء مهين. أن أصل الإنسان وأصل الحياة كلها من طين هذه الأرض؛ ومن عناصره الرئيسية التي تتمثل بذاتها في تركيب الإنسان الجسدي وتركيب الأحياء أجمعين. وأن هنالك أطواراً بين الطين والإنسان تشير إليها كلمة {سلالة}. وإلى هنا وتنتهي دلالة النصوص، فكل زيادة تحمل عليها ضرب من التحمل ليس القرآن في حاجة إليه. وللبحث العلمي أن يمضي في طريقه بوسائله الميسرة له، فيصل إلى ما يصل إليه من فروض ونظريات، يحقق منها ما يجد إلى تحقيقه سبيلا مضمونة، ويبدل منها ما لا يثبت على البحث والتمحيص. غير متعارض في أية نتيجة يحققها مع الحقيقة الأولية التي ضمنها القرآن؛ وهي ابتداء خلق هذه السلالة من عناصر الطين ودخول الماء في تركيبها على وجه اليقين.
فأما كيف ارتقى هذا الطين من طبيعته العنصرية المعروفة إلى أفق الحياة العضوية أولا، وإلى أفق الحياة الإنسانية أخيرا؟ فهنا السر الذي يعجز عن تعليله البشر أجمعون. وما يزال سر الحياة في الخلية الأولى خافيا لا يزعم أحد أنه اهتدى إليه. فأما سر الحياة الإنسانية العليا بما فيها من مدارك وإشراقات وطاقات متميزة على الخلائق الحيوانية جميعا، تفوقاً حاسماً فاصلا منذ بدء ظهور الإنسان. فأما هذا السر فما تزال النظريات تخبط حوله ولا تملك الآن أن تنكر تفرد الإنسان بخصائصه منذ نشأته كما أنها لا تملك أن تثبت الصلة المباشرة بينه وبين أي كائن قبله، مما يزعم بعضها أن الإنسان تطور عنه كما أنها لا تملك نفي الاحتمال الآخر: وهو نشأة الأجناس منفصلة منذ البدء وإن كان بعضها أرقى من بعض ثم نشأة هذا الإنسان متفرداً منذ البدء ايضاً. والقرآن الكريم يفسر لنا ذلك التفرد، هذا التفسير المجمل الواضح البسيط:
{فإذا سويته ونفخت فيه من روحي...}
فهي روح الله تنقل هذا التكوين العضوي الوضيع إلى ذلك الأفق الإنساني الكريم، منذ بدء التكوين، وتجعله ذلك الخلق المتفرد الذي توكل إليه الخلائق في الأرض بحكم تفرد خصائصه منذ بدء التكوين.
كيف؟.
ومتى كان نطاق هذا المخلوق الإنساني أن يدرك كيف يفعل الخالق العظيم؟
وهنا نصل إلى الأرض الصلبة التي نستوي عليها مطمئنين..
لقد كان خلق الشيطان من قبل من نار السموم. فهو سابق إذن للإنسان في الخلق. هذا ما نعلمه. أما كيف هو وكيف كان خلقه. فذلك شأن آخر. ليس لنا أن نخوض فيه. إنما ندرك من صفاته بعض صفات نار السموم. ندرك من صفاته التأثير في عناصر الطين بحكم أنه من النار. والأذى والمسارعة فيه بحكم أنها نار السموم. ثم تنكشف لنا من ثنايا القصة صفة الغرور والاستكبار. وهي ليست بعيدة في التصور عن طبيعة النار!
ولقد كان خلق الإنسان من عناصر هذا الطين اللزج المتحول إلى صلصال؛ ثم من النفخة العلوية التي فرقت بينه وبين سائر الأحياء؛ ومنحته خصائصه الإنسانية، التي أفردته منذ نشأته عن كل الكائنات الحية؛ فسلك طريقاً غير طريقها منذ الابتداء. بينما بقيت هي في مستواها الحيواني لا تتعداه!
هذه النفخة التي تصله بالملأ الأعلى؛ وتجعله أهلاً للاتصال بالله، وللتلقي عنه؛ ولتجاوز النطاق المادي الذي تتعامل فيه العضلات والحواس، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول. والتي تمنحه ذلك السر الخفي الذي يسرب به وراء الزمان والمكان، ووراء طاقة العضلات والحواس، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصورات غير محدودة في بعض الأحيان.
ذلك كله مع ثقلة الطين في طبعه، ومع خضوعه لضرورات الطين وحاجاته: من طعام وشراب ولباس وشهوات ونزوات. ومن ضعف وقصور وما ينشئه الضعف والقصور من تصورات ونزعات وحركات.. هذا مع أن هذا الكائن مركّب منذ البدء من هذين الأفقين اللذين لا ينفصلان فيه. طبيعته طبيعة المركّب لا طبيعة المخلوط أو الممزوج! ولا بد من ملاحظة هذه الحقيقة ودقة تصورها كلما تحدثنا عن تركيب الإنسان من الطين ومن النفخة العلوية التي جعلت منه هذا المخلوق الفريد التكوين.. إنه لا انفصال بين هذين الأفقين في تكوينه، ولا تصرف لأحدهما بدون الآخر في حالة واحدة من حالاته. إنه لا يكون طيناً خالصاً في لحظة، ولا يكون روحاً خالصاً في لحظة؛ ولا يتصرف تصرفاً واحداً إلا بحكم تركيبه الذي لا يقع فيه الانفصال!
والتوازن بين خصائص العناصر الطينية فيه والعناصر العلوية هو الأفق الأعلى الذي يطلب إليه ان يبلغه، وهو الكمال البشري المقدر له. فليس مطلوباً منه أن يتخلى عن طبيعة أحد عنصريه ومطالبه ليكون مَلَكا أو ليكون حيوانا. وليس واحد منهما هو الكمال المنشود للإنسان. والارتفاع الذي يخل بالتوازن المطلق نقص بالقياس إلى هذا المخلوق وخصائصه الأصيلة، والحكمة التي من أجلها خلق على هذا النحو الخاص.
والذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية الطليقة.. كلاهما يخرج على سواء فطرته؛ ويريد من نفسه ما لم يرده الخالق له. وكلاهما يدمر نفسه بتدمير ذلك المركب في كيانها الأصيل. وهو محاسب أمام الله على هذا التدمير.
من أجل هذا أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من أراد أن يترهبن فلا يقرب النساء، ومن أراد أن يصوم الدهر فلا يفطر، ومن أراد أن يقوم الليل فلا ينام. انكر عليهم كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها وقال: «فمن رغب عن سنتي فليس مني».
وقد أقام الإسلام شريعته للإنسان على أساس تكوينه ذاك؛ وأقام له عليها نظاماً بشرياً لا تدمر فيه طاقة واحدة من طاقات البشر. إنما قصارى هذا النظام أن يحقق التوازن بين هذه الطاقات، لتعمل جميعها في غير طغيان ولا ضعف؛ ولا اعتداء من إحداها على الأخرى. فكل اعتداء يقابله تعطيل. وكل طغيان يقابله تدمير. والإنسان حفيظ على خصائص فطرته ومسؤول عنها أمام الله. والنظام الذي يقيمه الإسلام للناس حفيظ على هذه الخصائص التي لم يهبها الله جزافا للإنسان.
والذي يريد قتل النوازع الفظرية الحيوانية في الإنسان يدمر كيانه المتفرد. ومثله الذي يريد قتل النوازع الفطرية الخاصة بالإنسان دون الحيوان من الاعتقاد في الله والإيمان بالغيب الذي هو من خصائص الإنسان.. والذي يسلب الناس عقائدهم يدمر كينونتهم البشرية، كالذي يسلب الناس طعامهم وشرابهم ومطالبهم الحيوية سواء.. كلاهما عدو للإنسان يجب أن يطارده كما يطارد الشيطان!
إن الإنسان حيوان وزيادة.. فله مثل مطالب الحيوان، وله ما يقابل هذه الزيادة. وليست هذه المطالب دون هذه هي المطالب الأساسية كما يزعم اعداء الإنسان من أصحاب المذاهب المادية العلمية.
هذه بعض الخواطر التي تطلقها في النفس حقيقة تكوين الإنسان، كما يقررها القرآن. نمر بها سراعا، حتى لا نوقف تدفق النص القرآني في عرض مشاهد القصة الكبرى، راجين أن نعود إليها ببعض التعقيبات في نهايتها:
لقد قال الله للملائكة: {إني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}..
وقد كان ما قاله الله. فقوله تعالى إرادة. وتوجه الإرادة ينشئ المراد. ولا نملك أن نسأل كيف تلبست نفخة الله الأزلي الباقي بالصلصال المخلوق الفاني. فالجدل على هذا النحو عبث عقلي. بل عبث بالعقل ذاته، وخروج به عن الدائرة التي يملك فيها أسباب التصور والإدراك والحكم. وكل ما ثار من الجدل حول هذا الموضوع وكل ما يثور إن هو إلا جهل بطبيعة العقل البشري وخصائصه وحدوده، وإقحام له في غير ميدانه، ليقيس عمل الخالق إلى مدركات الإنسان، وهو سفه في إنفاق الطاقة العقلية، وخطأ في المنهج من الأساس.
إنه يقول: كيف يتلبس الخالد بالفاني، وكيف يتلبس الأزلي بالحادث؟ ثم ينكر أو يثبت ويعلل! بينما العقل الإنساني ليس مدعواً أصلاً للفصل في الموضوع. لأن الله يقول: إن هذا قد كان. ولا يقول: كيف كان. فالأمر إذن ثابت ولا يملك العقل البشري أن ينفيه. وكذلك هو لا يملك أن يثبته بتفسير من عنده- غير التسليم بالنص- لأنه لا يملك وسائل الحكم. فهو حادث. والحادث لا يملك وسائل الحكم على الأزلي في ذاته، ولا على الأزلي في خلقه للحادث. وتسليم العقل ابتداء بهذه البديهية أو القضية وهي أن الحادث لا يملك وسائل الحكم على الأزلي في أي صورة من صوره. يكفي ليكف العقل عن إنفاق طاقته سفها في غير مجاله المأمون.
فلننظر بعد ذلك ماذا كان:
{فسجد الملائكة كلهم أجمعون}..
كما هي طبيعة هذا الخلق الملائكة الطاعة المطلقة بلا جدل أو تعويق.
{إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين}..
وإبليس خلق آخر غير الملائكة. فهو من نار وهم من نور. وهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. وهو أبى وعصى. فليس هو من الملائكة بيقين. أما الاستثناء هنا فليس على وجهه. إنما هو كما تقول: حضر بنوفلان إلا أحمد. وليس منهم. إنما هو معهم في كل مكان أو ملابسة. وأما أن الأمر المذكور للملائكة: {وإذ قال ربك للملائكة}.. فكيف شمل إبليس؟ فإن صدور الأمر إلى إبليس يدل عليه ما بعده، وقد ذكر صريحاً في سورة الأعراف: {قال: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟} وأسلوب القرآن يكتفي بالدلالة اللاحقة في كثير من المواضع. فقول الله تعالى له: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟} قاطع في أن الأمر قد صدر له. وليس من الضروري أن يكون هذا الأمر هو أمره للملائكة. فقد يصدر إليه معهم لاجتماعه بهم في ملابسة ما. وقد يصدر إليه منفردا ولا يذكر تهوينا لشأنه وإظهارا للملائكة في الموقف. ولكن المقطوع به من النصوص ومن دلالة تصرفه أنه ليس من الملائكة. وهذا ما نختاره.
وعلى أية حال فنحن نتعامل هنا مع مسلمات غيبية لا نملك تصور ماهياتها ولا كيفياتها في غير حدود النصوص. لأن العقل كما أسلفنا لا سبيل له في هذا المجال بحال من الأحوال.
{قال: يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين؟ قال: لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون}..
وصرحت طبيعة الغرور والاستكبار والعصيان في ذلك المخلوق من نار السموم. وذكر إبليس الصلصال والحمأ، ولم يذكر النفخة العلوية التي تلابس هذا الطين.
وتشامخ برأسه المغرور يقول: إنه ليس من شأنه في عظمته أن يسجد لبشر خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون!.
وكان ما ينبغي أن يكون:
{قال: فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين}..
جزاء العصيان والشرود:
عندئذ تتبدى خليقة الحقد وخليقة الشر:
{قال: رب فأنظرني إلى يوم يبعثون. قال: فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم}..
لقد طلب النظرة إلى يوم البعث، لا ليندم على خطيئته في حضرة الخالق العظيم، ولا ليتوب إلى الله ويرجع ويكفر عن إثمه الجسيم. ولكن لينتقم من آدم وذريته جزاء ما لعنه الله وطرده. يربط لعنة الله له بآدم، ولا يربطها بعصيانه لله في تبجح نكير!
{قال: رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين}..
وبذلك حدد إبليس ساحة المعركة. إنها الأرض:
{لأزينن لهم في الأرض}..
وحدد عدته فيها إنه التزين. تزيين القبيح وتجميله، والإغراء بزينته المصطنعة على ارتكابه. وهكذا لا يجترح الإنسان الشر إلا وعليه من الشيطان مسحة تزينه وتجمله، وتظهره في غير حقيقته وردائه. فليفطن الناس إلى عدة الشيطان؛ وليحذروا كلما وجدوا في أمر تزيينا، وكلما وجدوا من نفوسهم إليه اشتهاء. ليحذروا فقد يكون الشيطان هناك. إلا أن يتصلوا بالله ويعبدوه حق عبادته، فليس للشيطان بشرطه هو على عباد الله المخلصين من سبيل:
{ولأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين}..
والله يستخلص لنفسه من عباده من يخلص نفسه لله، ويجردها له وحده، ويعبده كأنه يراه. وهؤلاء ليس للشيطان عليهم من سلطان.
هذا الشرط الذي قرره إبليس اللعين قرره وهو يدرك أن لا سبيل إلى سواه، لأنه سنة الله.. أن يستخلص لنفسه من يخلص له نفسه، وأن يحميه ويرعاه.. ومن ثم كان الجواب:
{هذا صراط عليّ مستقيم. إن عبادي ليس لك عليهم سلطان. إلا من اتبعك من الغاوين}..
هذا صراط. هذا ناموس. هذه سنة. وهي السنة التي إرتضتها الإرادة قانونا وحكما في الهدى والضلال. {إن عبادي} المخلصين لي ليس لك عليهم سلطان، ولا لك فيهم تأثير، ولا تملك أن تزين لهم لأنك عنهم محصور، ولأنهم منك في حمى، ولأن مداخلك إلى نفوسهم مغلقة، وهم يعلقون أبصارهم بالله، ويدركون ناموسه بفطرتهم الواصلة إلى الله. إنما سلطانك على من اتبعك من الغاوين الضالين. فهو استثناء مقطوع لأن الغاوين ليسوا جزاء من عباد الله المخلصين. إن الشيطان لا يتلقف إلا الشاردين كما يتلقف الذئب الشاردة من القطيع. فأما من يخلصون أنفسهم لله، فالله لا يتركهم للضياع. ورحمة الله أوسع ولو تخلفوا فإنهم يثوبون من قريب!
فأما العاقبة. عاقبة الغاوين. فهي معلنة في الساحة منذ البدء:
{وإن جهنم لموعدهم أجمعين.
لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم}.
فهولاء الغاوون صنوف ودرجات. والغواية ألوان وأشكال. ولكل باب منهم جزء مقسوم، بحسب ما يكونون وما يعملون.
وينتهي المشهد وقد وصل السياق بالقصة إلى نقطة التركيز وموضع العبرة. ووضح كيف يسلك الشيطان طريقه إلى النفوس. وكيف تغلب خصائص الطين في الإنسان على خصائص النفخة. أما من يتصل بالله ويحتفظ بنفخة روحه فلا سلطان عليه للشيطان..
وبمناسبة ذكر مصير الغاوين يذكر مصير المخلصين:
{إن المتقين في جنات وعيون. ادخلوها بسلام آمنين. ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين. لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين}.
والمتقون هم الذين يرقبون الله ويقون أنفسهم عذابه وأسبابه. ولعل العيون في الجنات تقابل في المشهد تلك الأبواب في جهنم. وهم يدخلون الجنات بسلام آمنين في مقابل الخوف والفزع هناك. ونزعنا ما في صدورهم من غل، في مقابل الحقد الذي يغلي به صدر إبليس فيما سلف من السياق. لا يمسهم فيها نصب ولا يخافون منها خروجا. جزاء ما خافوا في الأرض واتقوا فاستحقوا المقام المطمئن الآمن في جوار الله الكريم....
وبعد، فإن قصة البشرية الكبرى كما تعرض في هذا السياق القرآني تستحق تعقيبات مفصلة لا نملك ان نستطرد فيها في ظلال القرآن فنكتفي أن نلم بها إلماما، على قدر المناسبة:
* أن دلالتها واضحة على طبيعة تكوين هذا الخلق المسمى بالإنسان. فهو تكوين خاص متفرد، يزيد على مجرد التركيب العضوي الحيوي، الذي يشترك فيه مع بقية الأحياء. وأيا كانت نشأة الحياة، ونشأة الأحياء؛ فإن الخلق الإنساني يتفرد بخاصية أخرى هي التي ورد بها النص القرآني.. خاصية الروح الإلهي المودع فيه.. وهي الخاصية التي تجعل من هذا الإنسان إنسانا، يتفرد بخصائصه عن كل الأحياء الأخرى. وهي قطعاً ليست مجرد الحياة. فهو يشترك في الحياة مع سائر الأحياء. ولكنها خاصية الروح الزائد عن مجرد الحياة.
هذه الخاصية كما يلهم النص القرآني لم تجئ للإنسان بعد مراحل أو أطوار من نشأته كما تزعم الدارونية ولكنها جاءت مصاحبة لخلقه ونشأته. فلم يجئ على هذا الكائن الإنساني زمان كان فيه مجرد حيّ من الأحياء بلا روح إنساني خاص ثم دخلته هذه الروح، فصار بها وهو هذا الإنسان!
ولقد اضطرت الدارونية الحديثة على يد جوليان هاكسلي أن تعترف بشطر من هذه الحقيقة الكبيرة؛ وهي تقرر تفرد الإنسان من الناحية الحيوية والوظيفية. ومن ثم تفرده من الناحية العقلية، وما نشأ عن ذلك كله من تفرده من الناحية الحضارية.
ولكنها ظلت تزعم أن هذا الإنسان المتفرد متطور عن حيوان!
والتوفيق عسير بين ما انتهت إليه الداروينية الحديثة من تفرد الإنسان، وبين القاعدة التي تقوم عليها الداروينية قاعدة التطور المطلق وتطور الإنسان عن الحيوان ولكن الداروينيين ومن والاهم لا يزالون مصرين على ذلك الاندفاع غير العلمي الذي صبغوه بصبغة العلم، في دفعة الانسلاخ من كل مقررات الكنيسة! والذي شجع اليهود على نشره وتمكينه وتثبيته، وإضفاء الصبغة العلمية عليه لغرض في نفوسهم؛ ولغاية في مخططاتهم!
ولقد سبق أن تحدثنا عن هذه القضية، ونحن نواجه النصوص القرآنية المشابهة في سورة الأعراف في هذه الضلال؛ فنقتطف هذه الفقرات مما سبق تقريره هناك: وعلى أية حال، فإن مجموع النصوص القرآنية في خلق آدم عليه السلام، وفي نشأة الجنس البشري، ترجح أن إعطاء هذا الكائن خصائصه الإنسانية ووظائفه المستقلة، كان مصاحبا لخلقه. وأن الترقي الإنساني كان ترقياً في بروز هذه الخصائص، ونموها، وتدريبها، واكتسابها الخبرة العالية. ولم يكن ترقياً في وجود الإنسان.. من تطور الأنواع حتى انتهت إلى الإنسان.. كما تقول الداروينية.
ووجود أنواع مترقية من الحيوان تتبع ترتيباً زمنياً بدلالة الحفريات التي تعتمد عليها نظرية النشوء والإرتقاء هو مجرد نظرية ظنية وليست يقينية لأن تقدير أعمار الصخور ذاته في طبقات الأرض ليس إلا ظنا! مجرد فرض كتقدير أعمار النجوم من إشعاعها. وليس ما يمنع من ظهور فروض أخرى تعدّلها أو تغيرها!
على أنه على فرض العلم اليقيني بأعمار الصخور ليس هناك ما يمنع من وجود أنواع من الحيوان، في أزمان متوالية، بعضها أرقى من بعض، بفعل الظروف السائدة في الأرض ومدى ما تسمح به من وجود أنواع تلائم هذه الظروف السائدة في حياتها. ثم انقراض بعضها حين تتغير الظروف السائدة بحيث لا تسمح لها بالحياة (وظهور أنواع أخرى أكثر ملاءمة للظروف السائدة)... ولكن هذا لا يحتم أن يكون بعضها متطورا من بعض.. وحفريات دارون وما بعدها لا تستطيع أن تثبت أكثر من هذا، لا تستطيع أن تثبت في يقين مقطوع به أن هذا النوع تطور تطوراً عضوياً من النوع الذي قبله من الناحية الزمنية وفق شهادة الطبقة الصخرية التي يوجد فيها ولكنها فقط تثبت أن هناك نوعاً أرقى من النوع الذي قبله زمنيا.. وهذا يمكن تعليله بما قلنا من ان الظروف السائدة في الأرض كانت تسمح بوجود هذا النوع. فلما تغيرت صارت صالحة لنشأة نوع آخر، فنشأ. ومساعدة على انقراض النوع الذي كان عائشا من قبل في الظروف الأخرى، فانقرض.
وعندئذ تكون نشأة النوع الأنساني نشأة مستقلة، في الزمن الذي علم الله أن ظروف الأرض تسمح بالحياة والنمو والترقي لهذا النوع.. وهذا ما ترجحه مجموعة النصوص القرآنية في نشأة البشرية.
وتفرد الإنسان من الناحية البيولوجية والفسيولوجية والعقلية والروحية. هذا التفرد الذي اضطر الداروينيون المحدثون وفيهم الملحدون بالله كلية للاعتراف به، دليل مرجح (في مجال البحوث الإنسانية) على تفرد النشأة الإنسانية، وعدم تداخلها مع الأنواع الأخرى في تطور عضوي.
* هذه النشأة المتفردة للإنسان، باحتوائها على هذه الخاصية المنشئة للوجود الأنساني المستقل.. خاصية النفخة من روح الله.. تجعل النظرة إلى هذا الأنسان ومطالبه الأساسية تختلف اختلافاً أصيلا عن نظرة المذاهب المادية، بكل إفرازاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكل إفرازاتها في التصورات والقيم التي ينبغي أن تسود الحياة الإنسانية.
إن الزعم بأن الإنسان مجرد حيوان متطور عن حيوان! هي التي جعلت الإعلان الماركسي يذكر أن مطالب الإنسان الأساسية هي الطعام والشراب والمسكن والجنس! فهذه فعلاً هي مطالب الحيوان الأساسية! ولا يكون الإنسان في وضع أحقر مما يكون وفق هذه النظرة! ومن ثم تهدر كل حقوقه المترتبة على تفرده عن الحيوان بخصائصه الإنسانية.. تهدر حقوقه في الاعتقاد الديني. وتهدر حقوقه في حرية التفكير والرأي. وتهدر حقوقه في اختيار نوع العمل، ومكان الإقامة. وتهدر حقوقه في نقد النظام السائد وأسسه الفكرية والمذهبية. بل تهدر حقوقه في نقد تصرفات الحزب ومن هم أقل من الحزب من الحكام المتسلطين في تلك الأنظمة البغيضة، التي تحشر الأناسي حشراً، وتسوقهم سوقاً، لأن هؤلاء الأناسيّ وفق الفلسفة المادية ليسوا سوى نوع من الحيوان تطور عن حيوان!.. ثم يسمى ذلك النكد كله: الاشتراكية العلمية!
فأما النظرة الإسلامية إلى الإنسان وهي تقوم على أساس تفرده بخصائصه الإنسانية إلى جانب ما يشارك فيه الحيوان من التكوين العضوي- فإنها منذ اللحظة الأولى تعتبر أن مطالب الإنسان الأساسية مختلفة وزائدة عن مطالب الحيوان الأساسية. فليس الطعام والشراب والمسكن والجنس هي كل مطالبه الأساسية. وليس ما وراءها من مطالب العقل والروح مطالب ثانوية!.. إن العقيدة وحرية التفكير والإرادة والاختيار هي مطالب أساسية كالطعام والشراب والمسكن والجنس.. بل هي أعلى منها في الاعتبار؛ لأنها هي المطالب الزائدة في الإنسان على الحيوان. أي المطالب المتعلقة بخصائصه التي تقرر إنسانيته! والتي بإهدارها تهدر آدميته!
ومن ثم لا يجوز أن تهدر في النظام الإسلامي حرية الاعتقاد والتفكير والاختيار في سبيل الإنتاج وتوفير الطعام والشراب والمسكن والجنس للآدميين! كما لا يجوز أن تهدر القيم الاخلاقية كما يقررها الله للإنسان لا كما يقررها العرف والبيئة والاقتصاد في سبيل توفير تلك المطالب الحيوانية.
إنهما نظرتان مختلفتان من الأساس في تقييم الإنسان ومطالبه الأساسية.. ومن ثم لا يمكن الجمع بينهما في نظام واحد على الإطلاق! فإما الإسلام، وإما المذاهب المادية بكل ما تفرزه من إفرازات نكدة.. بما فيها ما يسمونه هناك: الاشتراكية العلمية فإن هو إلا إفراز خبيث من إفرازات المادية الحقيرة المحتقرة للإنسان الذي كرمه الله.
* والمعركة الخالدة بين الشيطان والإنسان في هذه الأرض ترتكز ابتداء إلى استدراج الشيطان للإنسان بعيدا عن منهج الله؛ والتزيين له فيما عداه. استدراجه إلى الخروج من عبادة الله أي الدينونة له في كل ما شرع من عقيدة وتصور، وشعيرة ونسك، وشريعة ونظام فأما الذين يدينون له وحده أي يعبدونه وحده فليس للشيطان عليهم من سلطان.. {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان}..
ومفرق الطريق بين الاتجاه إلى الجنة التي وعد بها المتقون؛ وبين الاتجاة إلى جهنم التي وعد بها الغاوون، هو الدينونة لله وحده التي يعبر عنها في القرآن دائماً بالعبادة أو اتباع تزيين الشيطان بالخروج على هذه الدينونة.
والشيطان نفسه لم يكن ينكر وجود الله سبحانه، ولا صفاته.. أي إنه لم يكن يلحد في الله من ناحية العقيدة! إنما الذي فعله هو الخروج على الدينونة لله.. وهذا هو ما أورده جهنم هو ومن اتبعه من الغاوين.
إن الدينونة لله وحده هي مناط الإسلام. فلا قيمة لإسلام يدين أصحابه لغير الله في حكم من الأحكام. وسواء كان هذا الحكم خاصاً بالاعتقاد والتصور. أو خاصاً بالشعائر والمناسك. أو خاصاً بالشرائع والقوانين. أو خاصاً بالقيم والموازين.. فهو سواء.. الدينونة فيه لله هي الإسلام. والدينونة فيه لغير الله هي الجاهلية الذاهبة مع الشيطان.
ولا يمكن تجزئة هذه الدينونة؛ واختصاصها بالاعتقاد والشعائر دون النظام والشرائع. فالدينونة لله كل لا يتجزأ. وهي العبادة لله في معناها اللغوي وفي معناها الاصطلاحي على السواء.. وعليها تدور المعركة الخالدة بين الإنسان والشيطان!
* وأخيراً نقف أمام اللفتة الصادقة العميقة في قوله تعالى عن المتقين:
{إن المتقين في جنات وعيون. ادخلوها بسلام آمنين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين. لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين}..
إن هذا الدين لا يحاول تغيير طبيعة البشر في هذه الأرض؛ ولا تحويلهم خلقاً آخر. ومن ثم يعترف لهم بأنه كان في صدورهم غلٌّ في الدنيا؛ وبأن هذا من طبيعة بشريتهم التي لا يذهب بها الإيمان والإسلام من جذورها؛ ولكنه يعالجها فقط لتخف حدتها، ويتسامى بها لتنصرف إلى الحب في الله والكره في الله وهل الإيمان إلا الحب والبغض؟ ولكنهم في الجنة قد وصلت بشريتهم إلى منتهى رقيها وأدت كذلك دورها في الحياة الدنيا ينزع أصل الإحساس بالغل من صدروهم؛ ولا تكون إلا الأخوة الصافية الودود..
إنها درجة أهل الجنة.. فمن وجدها في نفسه غالبة في هذه الأرض، فليستبشر بأنه من أهلها، ما دام ذلك وهو مؤمن، فهذا هو الشرط الذي لا تقوم بغيره الأعمال..

1 | 2